25.01.2023
145

المنهج الماتريدي وتحصين الشّباب من التغرُّب

د. محمد جنيد بن محمد نوري الديرشوي

أستاذ مشارك في تخصّص الفقه الإسلامي وأصوله

أكاديمية بلغار الإسلامية، تتارستان- روسيا الاتحادية

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة: الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على خير خلقه سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد. فالشّباب أمل الأمة وعِمادُها، وذخرها وثروتها، فعلى طاقاتهم الذّهنية والبدنية تنهض الأمة وتترقّى في مدارج التقدّم والازدهار والحضارة.

ورِهان الأمة في معركة تحقيق الذّات وإثبات الهوية على شبابها .. ولكنّ شبابنا اليوم عُرْضة للاختطاف، ومن ثَمَّ فإنّ الأمة مهدّدة بخسارة هذا الرّهان – لا قدّر الله – إن هي لم تتّخذ التدابير اللاّزمة للمحافظة على ثروتها الشّبابية، وتحصينها. وإنّ أعظم ما يتهدّد شباب الأمّة خطران اثنان، هما:

الأوّل: التغرًّب والانسلاخ من الهوية: وذلك نتيجة التأثّر بما يثار من الإشكالات الفكرية التي تصل إليهم عبر وسائل الإعلام المختلفة ووسائل التواصل.

والثاني: انزلاق الشّباب إلى الانحراف والغُلُو: والانقلاب على الأمّة والخروج على حاضرها والكفر بماضيها، ونسبة رموز الأمة وأعلام أئمّتها إلى الضّلال والكفر. فيُبتَرون من جرّاء ذلك من جذورهم. وإنّ النتيجة الطبيعية لذلك أن يتيهوا في أو دية التطرّف .. وإنّ المحاولات والدعوات التي تسعى للإيقاع بالشّباب كثيرة ومتنوعة.

ولذا فقد كان لزامًا على الأمّة أن تولي هذه المسألة عناية فائقة، وأن تجعلها في مقدّمة أولويّاتها. ولا ريب أنّ ضمانة نجاح الأمة في مهمّتها هذه نشرُ الوعي وتحصين العقل. 

أمّا التصدّي للخطر الأول فيتمثّل في تبصير النّشء بالمناهج العقلية الرّصينة التي اشتهرت بها بلاد ما وراء النّهر، سمرقند وبخارى وما حولهما .. فقد كان ذلك المنهج العقلاني المُحْكَم صمام أمان لتلك البلاد، بل كان مستعصَمًا للأمّة كلّها – إلى جانب المنهج الأشعري – استطاع أن يوحّد الوجهة الفكرية للأمّة الإسلامية على تعاقب العصور، وقد وضعت اللّبنات الأولى لهذا المنهج، وأسّست أصوله وشّيّدت أركانه في بلاد ما وراء النهر، على يد الإمام أبي منصور الماتريدي رحمه الله.

وأمّا الخطر الثاني فإنّ التصدّي له يتطلّب بيان الحقيقة التي لا تخفى على العلماء والمثقّفين، ألا وهي أنّ العقيدة الماتريدية قد تلقّاها أئمّتها من الإمام أبي حنيفة النعمان t ، وأنّها تشكّل لباب منهج أهل السّنّة والجماعة، وأنّ الخروج عليها خروج على العقيدة التي قبلتها واتّبعتها الجمهرة العظمى والسّواد الأعظم من المسلمين .. وحتى من لم يكن متبنّيًا لهذا المنهج لم يكن فيهم مَن ينسب هذه العقيدة إلى البدعة، ولا متّبعيها إلى الضّلال، بل كاونا يقرّون بكونها منهجًا سنّيًّا أصيلاً، كمن يتّبع مذهبًا من مذاهبنا الفقهية الأربعة، فإنّه يحترم المذاهب الأخرى غاية الاحترام. 

وسأحاول تفصيل هذا الكلام في المبحثين التاليين:

المبحث الأول – تحصين الشّباب من التغرُّب والانحراف في العقيدة

لا يخفى على أيّ مثقَّف أنّ من أهمّ المخاوف التي يحذّر منها رجال الفكر والعلم في العالم انجرار النّشء وراء التيّار الجارف للانترنت ووسائل التواصل الحديثة، التي أحدثت ثورةً عارمة في العالم لا عهد للبشرية بها. ولقد تنبّأ بعض رجال الفكر أوّلاً أنّ هذا التقدّم وما يحمله من الوسائل ستختطف النّشء، و ستسلبه كثيرًا من مقوّمات إنسانيته، وتجرّده من القيم والمبادئ التي كانت تسود المجتمعات البشرية خلال تاريخها، وستقضي على العواطف والمشاعر الإنسانية بحيث يصبح الإنسان كالآلة.

ولكنّ شباب المسلمين – زيادة على ما ذكرناه – يتعرض اليوم لهجمات شرسة من جهات كثيرة، تسعى إلى زعزعة يقينه بدينه وإلى تجريده من إيمانه، وذلك بإلقاء الشبهات العقلية و الفكرية الكثيرة والمختلفة؛ ليقنعوا الشّباب أنّ دينهم لا يتّفق مع ما يقرّره العلم وتثبته العقول .. وإزاء هذا الكيد الذي تكاد به أمّتنا ينبغي أن ننمّي في شبابنا الثقة بدينهم من خلال بعث المناهج الإسلامية العقلية. وإنّ أبرز من يمثّل المنهج الإسلامي الصّحيح المدرسة الماتريدية، وإنّ من شأن تبصير الجيل بمنهج هذه المدرسة العقلية العظيمة أن يحوط الشبّاب بوقاية أكيدة ضدّ كلّ شبهة تُثار، وتجعله قادرًا على إثبات ما يقرّره الدّين من الحقائق بلغة العقل والمنطق والفلسفة، بعيدًا عن التشنُّج والكلام العاطفي.

فما أهمّ ما ينبغي بيانه للجيل وتعليمه إياه من أسس هذا المنهج العلمي العقلاني لنضمن سلامة إيمانه، وتحصين عقله وفكره؟ سنبيّن ذلك في المطالب التالية:

المطلب الأوّل – بناء الثِّقة بالعقل وأحكامه: المدرسة الماتريدية مدرسة أصيلة وعريقة، وتشكّل – إلى جانب المدرسة الأشعرية - علم الكلام الإسلامي السُّنّي الذي مثّل الإسلام في كل العصور.

وعلم الكلام كما ذكر ابن خلدون رحمه الله:” علم يتضمّن الحجاج عن العقائد الإيمانيّة بالأدلّة العقليّة، والرّدّ على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السّلف وأهل السّنّة” [1: 1/458].

وإذا كانت المدرسة الماتريدية قد نشأت في مرحلة زمنية سابقة وعصور الإسلام الأولى، واستقرّت أسسها وقواعدها وضوابطها في الأزمنة الغابرة، وإذا كانت قد استطاعت أن تقوم بالمهمّة التي أُنشئت لها خير قيام؛ فإنّ تقادم العهد لم يُوهِ أسسها ولم يصدّع أركانها؛ ذلك أنّ بناء هذا المنهج العقلي الشامخ يقوم على أسس متينة ورصينة، ثابتة لا تتزعزع، ولا تخلَق جدّتُها على مر العصور وتعاقب الدُّهور.

نعم، إنّ المسائل والإشكالات التي تواجهها العقيدة الإسلامية قد اختلفت كثيرًا عمّا كانت عليه في العصور السالفة؛ ولكنّ المنهج لا يزال محتفظًا بقوّته، وفيه من مقوّمات الحياة والبقاء ما يجعله قادرًا على النّهوض بنفس الدّور الذي اضطلع به أيّام أئمّته العظام، الذين قعّدوا قواعده ومهّدوا أصوله.

ومن أهمّ ما نلحظه من أساسيّات المنهج في المدرسة الماتريدية ما يتعلّق بالقضيّة الأساسية في كلّ بحث وكلّ مناظرة، وهي المنطلق الموضوعي الأوّل لكلّ بحث علمي ولكلّ حوار هادف؛ ألا وهي مسألة الإقرار بوجود الحقائق في هذا الكون، وبأنّ العقل الإنساني قادر على التوصُّل إلى المعرفة اليقينية في صدد كشف وتبيُّن حقائق الموجودات.

ولأهميّة هذه المسألة، ولكونها حجر الأساس في كلّ معرفة إنسانية؛ فقد صُدّرت بها كلّ مؤلّفات العقيدة الماتريدية، سواء منها المطوَّلات والمختصَرات. حتى إنّنا لنجد مختصَرًا معتصَرًا كـمتن (العقائد النّسفية) افتتحه مصنّفه بقوله:” حقائق الأشياء ثابتة، والعلم بها متحقّق” [2: 13] ، ثمّ نجد الإمام أبا المعين النّسفي يُطيل النَّفَسَ في شرح وبيان هاتين الحقيقتين في صدر كتابه ( تبصرة الأدلة) ويورد إشكالات المشكّكين فيها المنكرين لها، فيقول بصدد ردّه على الذين يشكّكون في كلّ شيء، حتى في المحسوسات، وينكرون كذلك إمكان التوصّل إلى اليقين في المسائل النظرية التي يحتاج البحث فيها إلى الفكر .. يقول رحمه الله:” أجمع العقلاء على أنْ لا مناظرة بيننا وبين مَن هذا قوله؛ لأنّ فائدة المناظرة أن تثبت بالدلائل صحّة قولٍ وبطلان قولٍ آخَر، والعلم الحاصل عن النظر في الدلائل وإن كان يبلغ النهاية في القوة، فطريقُه أخفى من طريق علم الحواس والبدائه، ومن بلغ في الوقاحة والعناد مبلغًا لا يبالي من إنكار ما ثبت من العلوم والحقائق بالحواس وبدائه العقول؛ لا يرجى منه قبول العلم الثابت بالاستدلال” [3 : 2]. 

إنّه ليذكر هذا الكلام في مفتتح كتابه ليثبت به ويؤكّد على وجود العقل، وأنّ هناك معرفة يقينيّة، وحقائقَ مطلقةً لا يشوبها شكٌّ أو وَهْم - لا كما يزعم كثيرون اليوم بأنّه ليس هناك حقيقة مطلقة - وعلى أساس وجود هذه الحقائق والمعارف اليقينية يتحاور النّاس، وبدونها لا يمكن اكتساب أي معرفة و لا قيام أي حوار أو مناظرة، يقول رحمه الله:” ولأنّ المناظرة إنّما تكون بين اثنين إذا كان بينهما أصول مسلّمة حكمها الإثبات، وأصولٌ أخر مسلّمة حكمها النّفي.. ووُجِدَ فرعٌ له شَبَهٌ بكلا النوعين من الأصول بوجه من الوجوه، فيختلف اثنان أنّ إلحاقه بأي الأصلين أولى، وشبهَه بأيّهما كان بوصف العلة، وبأيهما كان بوصف الوجود؛ أعني ما وجد اتّفاقًا من غير أن يكون له علّة الحكم الثابت في الأصل. فيناظران ليظهر وصف العلة من وصف الوجود الواقع اتفاقًا، فيلحق بالأصل الذي يشاركه في وصف علة الحكم الثابت فيه.

وإذا لم يكن لهؤلاء المتجاهلة أصل مجمع عليه لا يتصوّر مناظرتهم” [4: 21].

وإنّ أبا المعين ليلفت أنظار العقلاء بكلامه الرّائع هذا إلى قضيّة منهجية أساسية في الحوار، هي ضرورة أن ينطلق المتحاوران في أي مسألة من نقطة هي محلّ اتّفاق بينهما؛ من أجل أن يمكن أن يصلوا إلى وِفاق في شأن المسألة محلّ النّزاع.

ولعَمري إنّ هذه النّقطة التي هي نقطة الانطلاق في المنهج الماتريدي، والمنهج الإسلامي بشكل عام، غدت اليوم – للأسف - شيئًا منسيًّا، ومن أجل ذلك لا نجد جدوى لأغلب الحوارات والمناظرات التي تعقد اليوم.

ثمّ يمضي أبو المعين في بحثه مع هذه الفئة، فلا يَعْدَمُ الحيلة في إقامة الحجّة عليهم، ولكن ليس بالمناظرة والحوار ومخاطبة العقل؛ لأنّ هؤلاء قد تنكّروا للعقل تمامًا وأنكروا قدرته على كسب معرفة يُطمأنّ إليها، ولنتركه يبيّن العلاج الذي يقترحه ويدعوا إلى إخضاع هؤلاء المرضى له، يقول رحمه الله:” ولكن ينبغي أن يعاقبوا بقطع الجوارح، والضّرب المبرّح، ومنع الطعام والشراب. فإذا استغاثوا وضجِروا وطلبوا الطعام والشراب، قيل لهم: لا حقيقة للقطع والضرب والجوع والعطش. إنّما ذلك كلّه حسبان وظنّ منكم، هو في الحقيقة إيصال الراحة إليكم، وإنعام عليكم إلى أن تتركوا العناد، وتقروا بالحقائق.” [5: 20-21]. 

ولا شكّ أنّ هذا الكلام الذي يقوله أبو المعين ليس دعوة إلى تطبيق ما يقترحه فعلاً، ولكنّه أسلوب من الحجاج كفيل بأن يوقظ أولئك التائهين عن عقولهم، فإنّ شأن تنبيه هؤلاء إلى ما اقترحه والتلويح بذلك أن يوقظهم من سباتهم، وأن يثيبهم إلى رشدهم. 

ثم بعد إقامة الحجّة على وجود العقل، وبقدرته على التوصُّل إلى حقائق اليقينية؛ تأتي قضية أخرى ذات أهميّة بالغة في المنهج، وهي تحديد مصادر المعرفة، وقد قسّموها إلى ثلاثة مصادر، وهي الحواسُّ السّليمة، والخبر الصّادق، والعقل [6: 15].

إنّ تحديد الطرق التي تُستقى منها المعرفة شرطٌ أساسي لاكتساب المعرفة، ولا مطمع في الاطمئنان إلى معارفنا والثّقة بها ما لم نقف على طرق المعرفة، وما لم نعلم المنهج الذي يجب أن يُتّبع عند محاولة معرفة أيّة مسألة، فكما أنّ ضمانة وصول المسافر إلى الوجهة التي يقصدها معرفة الطريق الموصلة إليها، فكذلك العلوم والمعارف للتوصّل إليها طرق، وكما أنّه ليس كل طريق يؤدّي إلى كلّ وجهة، فكذلك طرق المعرفة، ليس كل واحدة منها يُحَصًّل بواسطتها كلُّ معرفة.

إنّ هاتين الخطوتين ركيزتان أساسيّتان في منهج الماتريدية، وستظلاّن خطوتين أساسيّتين في المنهج المعرفي في كلّ عصر، ولا يمكن تجاوزهما.

لذا أنا أقول يجب أن يتشبّع شبابنا باليقين بهاتين الركيزتين المنهجيّتين الأساسيّتين، حتى نضمن أنّهم قد وضعوا أقدامهم على فم طريق المعرفة بشكل صحيح، وأنّهم سيسيرون فيه سيرًا آمنًا مطمئنًّا واثقًا ببلوغ الهدف بإذن الله تعالى.      

المطلب الثاني - إثبات قدرة العقل على تحصيل القطع: تنقسم المعارف الإنسانية إلى معارف ضرورية ومعارف نظرية، وكلا هذين القسمين يمكن للعقل أن يتوصّل إلى اليقين فيه. وقد أورد أبو المعين النّسفي اعتراض المشكّكين على هذه الحقيقة، وردّ عليهم ردًّا علميًّا مفحمًا، يقول رحمه الله:” وأمّا الكلام في العقل أنه من أسباب المعارف .....

وأهل الحق يقولون: كونُ العقل من أسباب المعارف يعلم بالضرورة. فإنّ العلم الثابت ببديهة العقل علم ضروري كعلم الحواس. فإنّ العلم بأنّ كل الشيء أعظم من جزئه وأنّ جزأه أصغر من كلّه ضروري، فإنّ زيدًا بكليّته أعظم من يده وحدها؛ إذ في كلّه يده وزيادة، ويده أصغر من كلّه، وكذا العلم بأنّ المستَوِيَينِ في زمان إذا اتّصف أحدهما بالتناهي في الوجود كان الآخر أيضًا تناهى في الوجود، كمن علم أنّ ولادة زيد وعمرو كانت في ساعة واحدة ثمّ علم أن أحدهما ابن عشرين سنةً؛ علم ضرورة أنّ الآخر ابن عشرين سنة، حتى إنّ الشيء من الشبه والشكوك لا يعتريه، ولو أراد تشكيك نفسه في ذلك لعجز، وعرف من نفسه أنّه مكابر، كما في العلم الحاصل بالحواس، وإذا كان كذلك فمن أنكر على الإطلاق كون العقل من أسباب المعارف قد أنكر العلم الضّروري وتجاهل والتحق بالسوفسطائية، فيعامل بما يعامل به السوفسطائية. وإن أقرّ به فقد أقرّ في الجملة بكون العقل من أسباب المعارف، فلو أنّه أقرّ بذلك وأنكر النظر والاستدلال. فقيل له: الدليل على أنّ النظر طريق العلم أن من اشتغل به واستوفى شرائط النّظر أفضى به إلى العلم لا محالة، فعرف أنّه طريق العلم، كاثنين يختلفان في طريق أنّه طريق سمرقند أم ليس بطريق لها، فأدنى ما يقطع به الخصومة أن يقال له: اسلك هذا الطريق فإن أفضى بك إلى سمرقند كان طريقًا إليها، وإن لم يفض بك إليها لم يكن طريقًا إليها، فإذا سلك وأفضى به إليها علم أنّه طريق سمرقند”[ 7: 27-29]

وإنّ المحافظة على الثّقة بالعقل وبأحكامه، وبيان أسباب الخلل في أحكامه لهو أمرٌ في غاية الأهميّة لكيلا يصبح الشّباب فريسة للتيه والضَّيَاع، ولكيلا يفترسهم دعاة التشكيك في كلّ شيء، حتى العقل وأحكامه. فإنّ شأن تقرير الحقيقة في هذا الصّدد ودفع الشّبهات تحصينَ عقول الشّباب.

المطلب الثالث - أصول الإيمان لا يقبل فيها غير الأدلة القطعية: إنّ من الأهمية بالمكان الأول أن يعلم شبابنا أنّ حقائق عقيدتنا قائمة على أصول يقينية قطعية، وأنّ علماءنا قرّروا أنّه لا يقبل في مسائل أصول العقيدة غير الأدلة القطعية، وأنّ الظنّ لا يقبل فيها، وأكّدوا على أنّ ذرّة من الشّكّ في هذه الأصول يخرج هذا الشّاكّ من دائرة الإيمان، ولذا فقد جدّ علماؤنا واجتهدوا في تقرير هذه الأصول بأدلّة عقلية قطعية لا يدانيها أدنى شك، والله عزّ وجلّ أمرنا بهذا صراحة حيث قال:” فاعلم أنّه لا إله إلا الله” سورة محمد: 19. فالإيمان لا يقبل إلا إذا كان علمًا، والعلم كما عرّفوه هو:”هو إدراك الشيء على ما هو به “ [ 8: 155] أي إدراك الشيء كما هو في الواقع.

وأهمّ هذه الأصول، بل أصلها، مسألةُ وجود الله تعالى. ومن أبرز ما يعتمد عليه العلماء من الأدلّة لإثباتها دليل حدوث العالم، وقانون العليّة، ووجود النّظام والإتقان في الكون. فيبدؤون أوّلاً بإثبات أنّ هذا الكون حادث، أي كان عدمًا ثمّ وُجد، وأنّه ليس قديمًا لا أوّل له .. بدؤوا حديثهم عن أدلّة إثبات وجود الله تعالى بهذا، وكلامهم في هذا طويل الذّيل .. ومن أدلّتهم في هذا دليل بطلان الرّجحان بلا مرجّح، وقانون بطلان التسلسل وبطلان الدّور، وبرهان التطبيق .. وهذه براهين صيغت صياغة فلسفية، ولكنّها لا تختلف في مضمونها ومعانيها عن الأدلة التي كان يستدلّ بها أئمّتنا من السّلف إلا في الأسلوب والصّيغة .. فهي لا تختلف في مضمونها عمّا ذكره العلاّمة ملاّ علي القاري من خبر مناظرة لأبي حنيفة t مع بعض المنكرين لوجود الخالق جلّ وعلا، قال القاري:”  حُكي عن أبي حنيفة رحمه الله أنّ قومًا من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الرّبوبية، فقال لهم أخبروني - قبل أن نتكلم في هذه المسألة - عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها، وتعود بنفسها فترسو بنفسها، وتتفرّغ بنفسها وترجع، كل ذلك من غير أن يدبّرها أحد، فقالوا: هذا محال لا يمكن أبدًا، فقال لهم: إذا كان هذا محالاً في سفينة؛ فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟!” [ 9: 38] .

أليس هذا بعينه هو دليل بطلان الرّجحان بلا مرجّح، وقانون العلّيّة، غير أنّه صيغ بلغة سهلة فطرية، بعيدةٍ عن تعقيدات الصياغة الفلسفية؟.

ثم بعد أن فرغوا من بيان أدلّة وجود الله، انتقلوا إلى الحديث عن صفات الله تعالى، وأوّلها وأهمّها صفة الوحدانية، واستدلّوا على ذلك ببراهين عقلية يقينية قاطعة، كبرهان التوارد والتمانع، وهذه كلّها أدلّة يقينيّة لا يرتاب فيها من لم يقرّر أن يعاند أو يكابر.

إنّ من الضّروري تبصير الشّباب بهذه الحقائق لكي يعلم أنّ العقيدة الإسلامية ليست ككثير من العقائد غيرها قائمة على التّسليم، وأنّها لا تملك المستند العلمي والعقلي. وإنّ مثل هذا الوهم غدا اليوم كثيرًا بين شباب المسلمين، نتيجة جهلهم بتراثهم العلمي والحضاري الذي خلّفه أئمّة هذا الدين، بخاصّة المتكلّمون.

وإنّ أولى من ينبغي أن ينهض بهذه المهمّة المقدّسة فيبثّ القوة في عقيدة أهل السّنة اليوم هم الذين قاموا بها في العصر الأوّل، فالشمس التي أشرقت آنذاك من سمرقند وبخارى وشاش وما حولها فعمّت بشعاعها جميع الأمّة، ونشرت النّور في ربوعها يؤمل أن تعود فتشرق من هذه البقعة المباركة من جديد.

والمأمول أنّ أهل هذه البلاد يتطلّعون إلى ذلك، وآية ذلك إقامتهم لهذا المؤتمر الذي سيكون منطلقًا لتحقيق هذا المشروع الذي هو مشروع الأمة، ومشروع هذا الدّين العظيم.

المطلب الرّابع - التمرُّس بأساليب الاستدلال والحِجاج: قد ذكرت آنفًا أنّ المشكلات في قضايا الإيمان تختلف اليوم عمّا كانت عليه في القرون السّالفة، ولكنّ هذا لا يغضّ من قيمة المنهج الذي تبنّته المدرسة الماتريدية، وقد ذكرنا بعض الأدوات التي بقيت محتفظة بقيمتها وبجدواها، وهناك غيرها الكثير في المنهج ممّا له قيمة ثابتة لا يطرأ عليه نسخ ولا نقض ولا نقص.

على أنّ تمرّس الشباب اليوم بقواعد ذلك المنهج من شأنّه أن ينمّي فيهم ملَكة النّقد وأساليب البحث والمناظرة، والقدرة على صوغ الحجة، فليس بالضّرورة أن تكون المسائل الجزئية التي تدرس كلّها مسائل عصرية وواقعية اليوم، لأنّ الغرض من دراسة المنهج التأسيس والتأصيل، أمّا المسائل الجزئية فالغرض منها التوضيح فحسب.

على أنّ معظم مكوّنات المنهج إنّما هي قواعد عقلية يقرّ بها العقل الإنساني في كل عصر؛ لا سيّما أنّ من شرط الاستدلال في قضايا العقيدة أن تكون الأدلّة قطعية يقينيّة كما أسلفنا، وأن تكون قريبة التناول في نتائجها، وما كان من هذا القبيل من القواعد والحجج فلا يفقد قيمته مهما كرّت العصور وتعاقبت الدّهور.

بل إنّ من اكتسب الملكة العقلية من جرّاء دراسة تلك القواعد والتدريب عليها، واستطاع أن يتصرّف فيها، وامتلك المهارة في استعمالها؛ يكون قادرًا على الاستدلال بها في ردّ شبهات المشكّكين اليوم، وتقرير الحقائق الإيمانية، ولا يعجزه أن ينقل تلك الأدلة والحجج إلى لغة اليوم. وهذا ما نلحظه في العلماء الرّاسخين في هذا العصر. بل لقد وجدنا أن أقدر العلماء على إثبات حقائق الدين بلغة العصر، وعلى ردّ كل شبهة يوردها خصوم الدّين هم أولئك الذين تضلّعوا من المناهج الأصيلة التي قرّرتها مناهجنا الكلامية، وكانوا إلى جانب ذلك على اطّلاع على ثقافة العصر، وعلى دراية بلغته. 

 

المصادر والمراجع

1. مقدمة ابن خلدون ، اسم المؤلف:  ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون الحضرمي الإشبيلي، (ت:808)، دار القلم - بيروت - 1984 ، الطبعة : الخامسة، عدد الأجزاء: 1.

2. التفتازاني، سعد الدين، مسعود بن فخر الدين عمر بن عبد الله التفتازاني (ت:792هـ) شرح العقائد النسفية، تحقيق د / أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة - الطبعة الأولى - 1987م، عدد الأجزاء: 1

3. النّسفي، أبو المعين ميمون بن محمد النّسفي، (ت: 508هـ)، تحقيق: الأستاذ الدكتور حسن هاتاي، طبعة رئاسة الشؤون الدينية للجمهورية التركية، أنقرة، الطبعة الأولى1990م، عدد الأجزاء: 1.

4. النّسفي، أبو المعين ميمون بن محمد النّسفي، (ت:508هـ)، تحقيق: الأستاذ الدكتور حسن هاتاي، طبعة رئاسة الشؤون الدينية للجمهورية التركية، أنقرة، الطبعة الأولى1990م، عدد الأجزاء: 1.

5. النّسفي، أبو المعين ميمون بن محمد النّسفي، (ت:508هـ)، تحقيق: الأستاذ الدكتور حسن هاتاي، طبعة رئاسة الشؤون الدينية للجمهورية التركية، أنقرة، الطبعة الأولى1990م، عدد الأجزاء: 1.

6. التفتازاني، سعد الدين، مسعود بن فخر الدين عمر بن عبد الله التفتازاني (ت:792هـ) شرح العقائد النسفية، تحقيق د / أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة - الطبعة الأولى - 1987م، عدد الأجزاء: 1

سعد الدين، مسعود بن فخر الدين عمر بن عبد الله التفتازاني (ت:792هـ) شرح العقائد النسفية

للإمام سعد الدين التفتازاني، تحقيق د / أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة - الطبعة الأولى - 1987م، عدد الأجزاء: 1.

7. النّسفي، أبو المعين ميمون بن محمد النّسفي، (ت:508هـ)، تحقيق: الأستاذ الدكتور حسن هاتاي، طبعة رئاسة الشؤون الدينية للجمهورية التركية، أنقرة، الطبعة الأولى1990م، عدد الأجزاء: 1.

8. الجرجاني، علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني (ت:816هـ)، تحقيق: جماعة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية بيروت –لبنان، الطبعة: الأولى 1403هـ -1983م

عدد الأجزاء: 1

9. القاري، ملا علي بن سلطان محمد القاري، (ت:1014هـ)، شرح الفقه الأكبر، تحقيق: مروان محمد الشعّار، دار النفائس، دمشق، الطبعة الثانية، 1430هـ - س2009م، عدد الأجزاء:1.

10. الزبيدي، محمد بن محمد بن الحسيني الزبيدي الشهير بمرتضى، (ت:1145) مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، الطبعة: 1414هـ، 1994م، عدد الأجزاء: 10

11. النّسفي، أبو المعين ميمون بن محمد النّسفي، (ت:508هـ)، تحقيق: الأستاذ الدكتور حسن هاتاي، طبعة رئاسة الشؤون الدينية للجمهورية التركية، أنقرة، الطبعة الأولى1990م، عدد الأجزاء: 1.

12. النّسفي، أبو المعين ميمون بن محمد النّسفي، (ت:508هـ)، تحقيق: الأستاذ الدكتور حسن هاتاي، طبعة رئاسة الشؤون الدينية للجمهورية التركية، أنقرة، الطبعة الأولى1990م، عدد الأجزاء: 1.

13. هيتو، د. محمد حسن، الوجيز  في أصول التشريع الإسلامي، مؤسسة الرسالة دمشق/ ط الأولى، 1436-2015م،
 عدد الأجزاء: 1.

14. التفتازاني، سعد الدين، مسعود بن فخر الدين عمر بن عبد الله التفتازاني (ت:792هـ) شرح العقائد النسفية، تحقيق د / أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة - الطبعة الأولى - 1987م، عدد الأجزاء: 1

15. الغزالي، محمد بن محمد بن محمد الغزالي، (ت:505هـ)، فيصل التفرقة بين الإسلام والزّندقة. عدد الأجزاء: 1

16. المرجع نفسه.

17. الشهرستاني، أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (ت:548هـ)، مؤسسة الحلبي

عدد الأجزاء: 3

18. التفتازاني، سعد الدين، مسعود بن فخر الدين عمر بن عبد الله التفتازاني (ت:792هـ) شرح العقائد النسفية، تحقيق د / أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة - الطبعة الأولى - 1987م، عدد الأجزاء: 1

 

معلومات إضافية

أثر العولمة على القيم والأخلاق
د. محمد أمين على محمد عيسىمدرس العقيدة والفلسفةجامعة نور مبارك كازاخستان- سابقاًالقاهرة الحمد لله رب العالمين حمدا لا يبلغ العدّ...
منهج الإمام الماتريدي في آيات الصفات من خلال تفسيره
الدكتور سيف بن علي العصريأستاذ علم الكلام والفقه والقضايا المعاصرة في أكاديمية بلغار الإسلامية الحمد لله المنفرد بالكمالات، المتصف بجميل...
إسهامات الماتريدية في الفقه من خلال دراسة المنهج الفقهي للإمام أبي منصور الماتريدي في تفسيره “تأويلات أهل السنة”
مصطفى محمود كلية دار العلوم بجامعة المنيا بجمهورية مصر العربيةإسهامات الماتريدية في الفقه من خلال دراسة المنهج الفقهي للإمام أبي...

ترك التعليق

ملاحظات

التواصل الاجتماعي

اتصال

هاتف:
بريد إلكتروني:
العنوان:
©2024 All Rights Reserved. This template is made with by Cherry