22.01.2023
352

منهج الإمام الماتريدي في آيات الصفات من خلال تفسيره

الدكتور سيف بن علي العصري

أستاذ علم الكلام والفقه والقضايا المعاصرة في أكاديمية بلغار الإسلامية

 

الحمد لله المنفرد بالكمالات، المتصف بجميل الصفات، المنزه عن المشابهة للمخلوقات، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وبعد:

فإنَّ الحديثَ عن علوم أهل السنة والجماعة، وإشاعةَ فضائلهم، ونشرَ مناقبهم، وإحياءَ معارفهم، من أهم الأعمال التي يجب أن تتضافر عليها الجهود، ومن أشرف ما أُنفقت فيه الأموال، وإنَّ مركز الإمام الماتريدي الدولي للبحوث العلمية يضطلع بدور كبير في هذه المهمة الجليلة، فجزى الله خيراً القائمين عليه، ووفقهم لما يحب ويرضى.

وأوزبكستان تضمُّ في طياتها تاريخاً من النور والعلم والمعرفة، فمن يجهل حواضر الإسلام والعلم سمرقند وطشقند وبخارى التي ظهر منها المفسرون والمحدثون والفقهاءُ والمتكلمون، فقد ظلَّت هذه المدن تزخر بالعلوم والمعارف، وتُمِدُّ العالم الإسلامي بكنوز لا تنقضي.

قال ابن الفقيه: “ليس في الأرض مدينة أنزه ولا أطيب ولا أحسن مستشرفا من سمرقند. وقد شبّها الحصين بن المنذر الرقاشي فقال: كأنها السماء للخضرة، ‌وقصورها ‌الكواكب للإشراق، ونهرها المجرّة للاعتراض، وسورها الشمس للأطباق”([1]).

وقد كانت سمرقند مصدراً لصناعة الكاغد (الأوراق) من قديم الزمان، قال الإمام السمعاني عن انفراد سمرقند بصناعة الأوراق: “وهو لا يُعمل في ‌المشرق ‌إلا ‌بسمرقند”([2]).

وقد كان لأهل السنة الحنفية حضور لافت في سمرقند يتمثل في أصحاب أبي بكر الجوزجاني وأبي نصر العياضي، وفي بخارى ويتمثل في أصحاب أبي حفص الكبير وابنه أبي حفص الصغير، وفي بلخ ويتمثل في أصحاب نصير بن يحيى البلخي.

وكان من العلماء الراسخين، والأئمة المعتبرين، الذين برزوا من سمرقند الإمام الكبير علم الهدى وناصر السنة وقامع المبتدعين أبي منصور الماتريدي، وهو محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي الحنفي، لم يعين من ترجم له تاريخاً لولادته، وإذا علمنا أنَّ شيخه محمد بن مقاتل الرازي قد توفي سنة 248 هـ تبين أن الإمام الماتريدي قد ولد قريبا من سنة 240هـ أو قبلها، وذلك حتى يكون له من السنِّ ما يسمح له بالتلقي عن شيخه، وأما وفاته فكانت سنة (333هـ)، وعليه فيكون الإمام أبو منصور الماتريدي قد ولد قبل الإمام أبي الحسن الأشعري بعشرين سنة أو يزيد، وذلك لأن الأشعري ولد سنة 260 هـ.

يتصل أبو منصور الماتريدي بأبي حنيفة بواسطتين فشيخه هو محمد بن مقاتل الرازي وشيخ الرازي هو محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة.

كما أن من شيوخه أبي سليمان موسى بن سليمان الْجَوْزجانيّ، وقد أخذ الجوزجاني عن صاحبي أبي حنيفة أبي يوسف ومحمد بن الحسن.

قال الإمام ملا علي القاري الحنفي عن الإمام أبي منصور الماتريدي: “إمام جليل مشهور، وعليه مدار أصول الحنفية في العقائد الحنيفية”([3]).

لأبي منصور الكثير من المؤلفات الشاهدة بعلو كعبه وإمامته وتبحره، من أكثرها فوائد، وأعظمها عوائد تفسيره المسمى “تأويلات أهل السنة”. 

تتلمذ الإمام الماتريدي على يد جمعٍ من الأئمة، كالإمام أبي نصر أحمد بن العباس العياضي الذي يتصل نسبه بسعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي، وأبي بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني، ومحمد بن مقاتل الرازي قاضي الري، ونصير بن يَحْيَى البلخي.

وأستفتح النقل عن هذا الإمام بكلامه عن الآية الجامعة للتنزيه، وهي قوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، قال الإمام الماتريدي: “والأصل في ذلك: أن الخلق وإن كانوا ذا أمثال وأشكال وأشباه، فليس يشبه بعضهم بعضًا من جميع الوجوه وكل الجهات، ولكن إنما يشبه بعضهم بعضا لا من جميع الوجوه، أو بوجه أو بصفة، أو بجهة أو بنفس، ثم صار بعضهم أمثالا لبعض وأشباهًا بتلك الجهة وبذلك الوصف؛ فدل أن اللَّه تعالى ليس يشبه الخلق، ولا له مثال منهم بوجه من الوجوه، ولا له شبه منهم، لا ما يرجع إلى النفس، وهو يتعالى عن جميع معاني الخلق وصفاتهم، ودل قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ): أنه شيء؛ لأنه نفى عن نفسه المثلية ولم ينف الشيئية، لكن يقال: شيء لا كالأشياء ينفى عنه شبه الأشياء، والشيء إثبات، وفي الإثبات توحيد، ولو لم يكن شيئًا لكان يقول: ليس هو شيئًا؛ دل أنه ما ذكر”([4]).

وهذا كلام في غاية الدقة والرصانة، فإنه يقرر أن الخلق وإن تباينوا في كثير من الصفات فلا بد وأن يتشابهوا أو يتشاركوا في بعضها، فهم أشباه لبعضهم في ذلك البعض، وأما المولى الكريم فإنه لا يُشبه الخلق أبداً، فإنه مباين لهم في جميع الصفات، والمخلوقات تعود في جنسها الأعلى إلى أجسام وأعراض، ولهذا نصَّ أهل السنة على أنَّ الله ليس جسماً ولا عرض، ومَنْ اعتقد التنزيه ونفي التجسيم لم يَرِدْ عليه إشكالٌ في الصفات الخبرية، فإنه لن يفهم مِنْ إضافة (اليد) إلى الله الجارحة والعضو والجسم، وكذلك (الوجه) و (العين) و (الساق) ونحوها مما ورد في الكتاب العزيز إضافته إلى الله، ولهذا تعامل أهلُ السنة مع هذه الألفاظ بواحدٍ من مسلكين، إما الإيمان بها واعتقاد أنَّ لها معاني شريفة، ونفي ما لا يليق من المعاني، وترك الخوض في تعيين المعنى اللائق، وهذا الطريقة تُعرف بالتفويض، وهي تأويل إجمالي، وأما المسلك الثاني الذي سلكه أهل السنة أيضاً فهو مسلك التأويل التفصيلي، بتعيين المعنى اللائق في كل نص من تلك النصوص.

وهذه الآية أصلٌ في معتقد أهل السنة والجماعة، فقد جمع الله تعالى فيها بين النفي والإثبات، فنفى المماثلة من كل وجه، وقدم النفي حتى يرسخ التنزيه، ويكون الإثبات بعد ذلك للسمع والبصر ونحوهما مصحوباً بالتنزيه، كما تفيد الآية الكريمة أنَّ من فَسَّرَ النصوص الواردة في حق الله على المعهود من الخطاب في حق المخلوقين فقد نال حظه من التشبيه والتجسيم، إذْ لا يعرف العرب مِنْ (الوجه واليد والعين والجنب ونحوها) إلا الأعضاء والأدوات المعروفة، ولم تضع العرب لهذه الألفاظ حين تضاف إلى الله معاني خاصة، فليس المعنى الحقيقي الظاهر المدلول عليه مِنْ وراء هذه الألفاظ إلا الأعضاء الجسمانية، وحَمْل الألفاظ على هذه المعاني غفلةٌ عن أنوار هذه الآية”([5]).

وأثني بذكر كلام الإمام الماتريدي حول آية الاستواء، وهي من الآيات التي كثرَ الكلام فيها، ودارت حولها المعارك العلمية بين أهل السنة ومخالفيهم، وَلِطُوْل كلام الإمام فإني أقسمه إلى فقرات مع التعليق والتوضيح، قال رحمه الله: “وقوله: “ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ”، قيل فيه بوجوه:

قيل: استوى إلى الدخان؛ كقوله: “اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ”.

وقيل: استوى: تَمَّ؛ كقوله: “بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى” أي: تَمَّ.

وقيل: استوى: أَي: استولى”([6]).

فذكر الإمام هنا الاحتمالات التي يمكن تفسير النص بها، ثم ذكرَ بعد ذلك قاعدة كلية في هذا الصدد يجب التعامل بها في كلِّ ما ورد إضافته إلى الله تعالى، فقال: “والأَصل عندنا في قوله: “ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ” و “اسْتَوَى ‌عَلَى ‌الْعَرْشِ”، وغيرها من الآيات من قوله: “وَجَاءَ رَبُّكَ” الآية. وقوله: “هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ”، الآية، من الآيات التي ظنت المشبِّهةُ أَن فيها تحقيق وصف اللَّه تعالى بما يستحق كثير من الخلق الوصفَ به على التشابه في الحقيقة، أنها تحتمل وجوهًا:

أحدها: أَنْ نَصِفَهُ بالذي جاء به التنزيل على ما جاء، ونعلم أَنه لا يشبه على ما ذُكر من الفعل فيه بغيره؛ لأنك بالجملة تعتقد أن اللَّه ليس كمثله شيء، وأنه لا يجوز أَن يكون له مثل في شيء؛ إذ لا يوجد حدثه فيه، أَو قدم ذلك الشيء من الوجه الذي أشبه اللَّه.

وذلك مدفوع بالعقل والسمع جميعًا، مع ما لم يجز أَن يقدر الصانع عند الوصف بالفعل كغيره، وأنه حي، قدير، سميع، بصير، نفى ما عليه أمر الخلق لما يصير بذلك أَحد الخلائق”.

وفي هذا القدر من كلامه ما يجب أن نقفَ معه، من ذلك:

أولاً: أنه قرر أن التعامل مع النصوص التي هي من باب واحدٍ يجب أن يكون تعاملاً واحداً، كالاستواء إلى السماء والاستواء على العرش، والمجيء والإتيان، وأنه يمتنع أن تُحمل هذه النصوص على معنى الحركة والانتقال الذي تتصف به المخلوقات.

ثانياً: قوله: “أَنْ نَصِفَهُ بالذي جاء به التنزيل على ما جاء، ونعلم أَنه لا يشبه على ما ذُكر من الفعل فيه بغيره”، فيه تقرير للتفويض مع التنزيه.

ثالثاً: قوله: “وأنه لا يجوز أَن يكون له مثل في شيء؛ إذ لا يوجد حدثه فيه” فيه نفي لأمرين يحصل بهما المخالفة للمشبهة، أولهما: نفي المماثلة من كل وجه، وثانيهما: نفي حلول الحوادث بذاته تعالى بقوله: “إذ لا يوجد حدثه فيه”.

رابعاً: قوله: “وذلك مدفوع بالعقل والسمع جميعًا” فيه تقرير التعاضد بين العقل والنقل، وأنه لا يمكن أن تُفسَّرَ نصوص الصفات الخبرية بما يُحيله العقل، ثم يُبين وجه الاستحالة بقوله: “لم يجز أَن يقدر الصانع عند الوصف بالفعل كغيره ... لما يصير بذلك أَحد الخلائق”، أي: أنَّ وصف الخالق بحقائق ما اتصف به المخلوق يُفضي إلى يكون الخالق كالمخلوق، وهذا مُحال.

ثم ذكرَ احتمالات تسندها العربية، وتأويلات تنسجم مع العقيدة الإسلامية، يمكن حمل النصوص عليها، يزول بها الإشكال، وينصرف بها التشبيه، فقال: في قوله تعالى: “وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ” أَي: وجاء ربك بالملك. كقوله: “فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا” أَي: بربك؛ إذ معلوم أَنه يقاتل بربه؛ ففهم منه ذلك ... وذكرَ في قوله تعالى: “الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرشِ اسْتَوَى” وجهين:

أَحدهما: أَن يكون معنى العرش الْملك، والاستواءُ على العرش، أي: الملك التام الذي لا يوصف بنقصان، وأنه لا سلطان لغيره، ولا تدبير لأَحد فيه.

والثاني: أَن يكون العرش أَعلى الخلق وأَرفعه؛ فيكون موصوفا بعلوه عن الأمكنة، وأَنه على ما كان قبل كون الأَمكنة، وهو فوق كل شيء؛ أي بالغلبة، والقدرة، والجلال عن الأَمكنة، ولا قوة إلا باللَّه”.

ويعود بنا الإمام الماتريدي إلى تقرير هذه المسألة في تفسيره للآية 229 من سورة البقرة، وهي آية تتحدث عن الطلاق، ولكنه مع ذلك ربط بينها وبين آية الاستواء ربطاً عجيبا، خلاصته أنه إذا لم يُفْهَم بحدٍ من حدود اللَّه تعالى ما يُفهم من حد الخلق، كيف فَهِم من استواء الرب ومجيئه ما فهم من استواء الخلق ومجيئهم؟!([7]).

ويعود الإمام الماتريدي لتجلية الأمر وتوضيحه مرة ثالثة في تفسير الآية 19 من سورة آل عمران، ويؤكد على أن الألفاظ تُفسر بحسب ما يليق بها، وما نُسبت إليه، وأن نسبة المجيء إلى العلم لا يقتضي المعنى ذاته للمجيء إذا نسب للإنسان، فيقول: “ثم في الآية دليل ألا يجوز أن يُفسَّر قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ)، وقوله: (إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ)، ونحوه: بالانتقال من حال إلى حال، أو من مكان إلى مكان؛ لأنه ذَكَرَ مجيءَ العلم، والعلم لا يوصف بالمجيء ولا ذهاب، وكذلك قوله: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ): ذكر مجيء الحق وزهق الباطل؛ فهما لا يوصفان بمجيء الأجسام، وذهابهم بالانتقال والتحول من مكان إلى مكان، ولا يعرف ذلك ولا يصرف إليه؛ فعلى ذلك لا جائز أن يصرف قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ)، (استَوَى ‌عَلَى ‌الْعَرْشِ)، ونحوه - إلى المعروف من استواء الخلق ومجيئهم؛ لتعاليه عن ذلك، قال: والمجيء لا يكون عن الانتقال خاصة؛ بل يكون مرة ذاك وأخرى غيره وكذلك الإتيان، واللَّه أعلم”([8]).

ثم يقرر تنزيه الله تعالى عن المكان بأسلوب بديع فيقول عن العرش: “جائز أن يكون هذا هو السرير المعروف، منشأه من النور، ومما شاء؛ ليكرم به أولياءه يوم القيامة، والأول هو الملك الذي ظهر تمامه وعلوه على ما بينا.

ثم لو كان العرش الذي قال عز وجل: “الرَّحْمَنُ ‌عَلَى ‌الْعَرْشِ اسْتَوَى”، هو ما فهمه أهل التشبيّه من مكان، لم يكن ليجب أن يفهم من الاستواء عليه الاستقرار، وأن يكون لله مكان يوصف بالكون فيه وعليه؛ لأنه ليس في كونِ أحدٍ في مكانٍ وإنْ جَلَّ قدرُه، وعظُمَ خطرُه رفعةٌ ولا نباهة فيما يتعارف من أمر الملوك والأجلة، بل كلُّ منسوبٍ إلى مكانٍ من جهة التمكين فيه والقرار، منسوب إلى استعانة وحاجة منه إليه، جل اللَّه عن ذلك”.

فيقرر بهذا أن الاستقرار والمكان نقص يجب تنزيه المولى عنه، لافتقار المظروف إلى الظرف، وحاجة المتمكن إلى المكان.

ثم يقول: “وعلى أنه إما أن يكون مثله أو أعظم منه، لكان له عديلًا بالعظمة أو دونه”. وفي كلامه هذا تقرير لاستلزام الاستقرار والجلوس للجسمية، لأن المستقر والجالس على شيء إما أن يكون أكبر منه أو مساويا له أو أصغر منه، وفي جميع الحالات إثبات للجسمية.

ثم قال: “بل كان ولا مكان فهو على ما كان يتعالى عن الاستحالة والتغير، إذ هو أثر الحدث، وأمارة الكون، بعد أن لم يكن، ولا قوة إلا باللَّه ... فما بال المشبهة فهمت من إضافة الاستواء على العرش المعنى المكروه”.

فيقرر بهذا أنَّ الاستواء إما أن يكون قديما فيلزم منه قدم العرش، وفي هذا نفي احتياج العرش إلى خالق، وتكذيب كونه تعالى خالقاً لكل شيء، وإما أن يكون الاستواء حادثا فيلزم منه قيام الحوادث بذاته تعالى، وذلك علامة كونه حادثاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. 

ثم قال الإمام الماتريدي: “على احتمال الاستواء معاني سوى الذي ذُكِر”، وكأنه يقول: ما الذي ضَيَّقٌ الخناق على المشبهة حتى يتركوا جميع المعاني الممكنة، ويختاروا المعنى الباطل، وفي هذا يقول: “فما بال المشبهة فهمت من إضافة الاستواء على العرش المعنى المكروه”.

ثم يقرر الإمام الماتريدي قاعدة مهمة في فهم خطاب الشارع الكريم، فيقول: “ثم الأصل أن الإضافات إلى الأشياء يفترق المقصود بها، وإن كان في ظاهر المخرج واحدًا باختلاف مَنْ إليه القصد بالإضافة، والإضافة جميعًا. يقال: جاء الحق، وجاء فلان، وبيت فلان، وبيت اللَّه”. فإن قيل: بيت فلان فهمنا أنه موضع سكناه، ومكان بيتوتته، وإن قيل: بيت الله، فهمنا أنه موضع عبادته سبحانه.

وقال في تفسير الآية 54 من سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى: “ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ”: “ونحن نقول وباللَّه التوفيق: قد ثبت من طريق التنزيل بأنه استوى على العرش، وقد لزم القول بأنه ليس كمثله شيء، وعلى ذلك اتفاق القول ألا يقدر كلامه بما عرف من كلام الخلق ... ثم يخرج على وجهين:

أحدهما: ثم خلق العرش، ورفعه، وأعلاه، بعد أن كان العرش على الماء؛ كقوله: “ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ”، وليس ثم تَنَقُّل من حال إلى حال؛ إذ لو كان كذلك لكان يصير حيث ثم ينتقل من خلق إلى خلق فيما يخلق، فيكون في الوقت الذي يصير إلى العرش صائرًا إلى الثرى، وفي الوقت الذي يحدث خلق ما في الأرض؛ وما في السماء، متنقلًا من ذا إلى ذا، وذلك تناقض فاسد، وفي ذلك بطلان معنى القول بالاستواء على العرش، بل يكون أبدًا غير مستوٍ عليه حتى يفرغ من خلق جميع ما يكون أبدًا، وذلك متناقض فاسد، جل اللَّه عن هذا التوهم، وباللَّه التوفيق.

والثاني: أن يكون قوله: “ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ” أي: إلى العرش في خلقه، ورفعه، وإتمامه، دليل احتماله على ذلك أن على من حروف الخفض وقد يوضع بعض موضع بعض؛ كقوله: “إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ”، بمعنى: عن الناس، وقوله: “إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِم”، بمعنى: عند ربهم، مع ما قال اللَّه: “إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ”، “وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ”، بمعنى إليه، وعلى ذلك: “ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ” أي: إلى العرش وهو على الماء كما ذكر فرفعه وأتمه”([9]).

وننتقل إلى آية أخرى من آيات الصفات، وهي قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، لننظر كيف تعامل معها هذا الإمام الكبير، قال رحمه الله: “وقوله عز وجل “بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ” بالمغفرة والتعذيب؛ يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، قال ابن عباس رضي اللَّه عنه: قولهم: “يد اللَّه مغلولة”: لا يعنون بذلك أن يده مُوثقة مغلولة، حقيقة اليد والغل؛ ولكن وصفوه بالبخل، وقالوا: أمسك ما عنده؛ بخلا منه، تعالى اللَّه عن ذلك ... وهو كقوله: “وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ” نهى عن البخل في الإنفاق، لا أنه أراد حقيقة غل اليد إلى عنقه؛ فعلى ذلك قولهم: “يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ” كناية عن البخل ووصف به، لا حقيقة الغل، وباللَّه العصمة ... “بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ”، أي: نعمه مبسوطة: يوسع على من يشاء، ويقتر على من يشاء”([10]).

ثم قرر الإمام أن حمل اليد على الجارحة محال في حق الله تعالى، وأنَّ اليد إذا أضيفت إلى ما ليس جسماً لم يصلح تفسير اليد بالجارحة، وضرب على ذلك أمثلة من القرآن، فقال: “ثم لا يحتمل أن يفهم من إضافة اليد إلى اللَّه ما يفهم من الخلق؛ لما وجد إضافة اليد إلى من لا يحتمل أن يكون له اليد، من ذلك قوله تعالى: “لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ”، لا يفهم من القرآن اليد كما يفهم من الخلق؛ فعلى ذلك لا يجوز أن يفهم من إضافة اليد إلى اللَّه تعالى كما يفهم من الخلق؛ ألا ترى أنه قال: “ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ”، “فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ”، لم يفهم منه اليد نفسها؛ وكذلك قوله: “ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ”، لكن أضيف ذلك إلى اليد؛ لما باليد يقدم ويعطي ويكسب؛ ألا ترى أنه قال تعالى: “لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ”، ومعلوم أنه لم يفهم من اليد: اليد نفسها، ولكن أضيف ذلك إليها؛ لما ذكرنا، واللَّه أعلم”.

ويزيد الأمر وضوحاً وتجلية في سورة (ص) الآية رقم 75، ونحن نقسِّمُ كلامه مع التعليق عليه، فيقول: “وقوله عز وجل: “قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا ‌خَلَقْتُ ‌بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ”: قد ذكرنا فيما تقدم في غير موضع أن تخصيص إضافة الشيء الواحد إلى اللَّه عز وجل يخرج مخرج تعظيم ذلك الواحد وذلك الفرد؛ كقوله: بيت اللَّه ومساجد اللَّه ورسول الله وولي اللَّه وأشباه ذلك، وخص هذه الأشياء بالإضافة إليه وإن كانت البقاع كلها والخلق كله له على التعظيم لذلك؛ فعلى ذلك يخرج إضافة خلق آدم إلى نفسه مخرج تعظيم آدم”([11]). وهذا المعنى الذي قرره الإمام الماتريدي قد تناوله في مواضع كثيرة من تفسيره، كرره ليقرره.

ثم قال: “قد تكلف أهل الكلام والتأويل في تأويل إضافة اليد إلى اللَّه عز وجل: منهم من قال: القوة، ومنهم من قال: كذا، لكن التكلف في ذلك فضل”. أي: أنه لا حاجة إلى ذلك التكلف، وذلك لأمرين:

الأول: أنه قد أضيفت اليد إلى من لا يد له ولا جارحة ولا عضو، كما في قوله عز وجل: “لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ”، ولم يفهم أحدٌ من هذه الآية العضو والجارحة، ونسب المجيء إلى الموعظة والبرهان، كما في قوله تعالى: “قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ”، 
و“قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ”، ولم يفهم أحد أن المقصود بالمجيء الحركة والانتقال.

الثاني: أنه قد أضيفت اليد إلى من له يد، ومع ذلك لم تُفسر اليد بالجارحة والعضو، كما في قوله تعالى: “ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ”، ونحو ذلك، وليس المراد باليد هنا الجارحة، بل المراد بما قدمتم، سواء فعل ذلك بيده أو بلسانه أو بعضو آخر، وإنما جاء ذكر اليد لأنه يكثر العمل بها.

ثم بيَّنَ الإمام الماتريدي أن هذه قاعدة عامة في آيات الصفات الخبرية، فقال: “على ذلك يخرج ما ذكر من استوائه على العرش بعد أن ذكرنا فيه ما يليق به ونفينا عنه ما لا يليق، وأصل ذلك أنا عرفنا اللَّه عز وجل متعاليا عن جميع معاني الغير، وعن كل صِفَاتٍ يُوصَفُ بها الغير، علي ما ذكر في كتابه: “لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ”([12]).

وقال في تفسير سورة (ص) “وفي قوله: “أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ” دلالة أن قد يفهم بذكر الأيدي غير الجارحة وبذكر البصر غير العين؛ لأنه معلوم أنه لم يرد بذكر الأيدي الجوارح، ولا بذكر الأبصار الأعين ولا فهم منه ذلك، ولكن فهم باليد القوة وبذكر البصر الفهم أو ما فهم؛ فعلى ذلك لا يفهم من قوله عز وجل: “‌خَلَقْتُ ‌بِيَدَيَّ”، ونحوه الجارحة على ما يفهم من الخلق، ولكن القوة أو غيرها، لكن كنى باليد عن القوة لما باليد يقوى، وكنى بالبصر عن درك الأشياء حقيقة لما بالبصر يدرك الأشياء”([13]).

وقال في تفسير سورة القمر، في تفسير قوله: “‌تَجْرِي ‌بِأَعْيُنِنَا”، قال: “أي: بتقديرنا وبحفظنا”([14]).

وقال في تفسير سورة القصص، عند قوله تعالى: “كُلُّ شَيْءٍ ‌هَالِكٌ ‌إِلَّا ‌وَجْهَهُ”: “إلا ما ابتغي منه وعمل له، وقال بعضهم: كل شيء هالك وزائل إلا هو؛ فإنه حي لا يموت دائم لا يزول. وقال بعضهم: كل أمر وَجِهَةٍ يُتَوَجَّهُ إليها ويعمل به هالك إلا الجهة والوجه الذي أمر هو بالتوجيه إليه والعمل به، وهو قريب بالأول، واللَّه أعلم”([15]).

 


 

[1] ابن الفقيه، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمداني، المتوفى (ت ٣٦٥)، البلدان والرحلات (ص624)، تحقيق يوسف الهادي، والناشر: عالم الكتب، بيروت، الطبعة: الأولى، ١٤١٦ هـ - ١٩٩٦ م.

 

[2] السمعاني، عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي المروزي، المتوفى (ت ٥٦٢هـ)، الأنساب (11/ 23)، المحقق: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني وغيره، الناشر: مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الطبعة: الأولى، ١٣٨٢هـ، ١٩٦٢م .

 

[3] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8/ 3445).

 

[4] تأويلات أهل السنة (9/ 110).

 

[5] العصري، سيف بن علي، القول التمام بإثبات التفويض مذهبا للسلف الكرام (ص: 101)، دار الفتح، عمان، الأردن.

 

[6] تأويلات أهل السنة (1/ 410).

 

[7] المرجع نفسه (2/ 168).

 

[8] تأويلات أهل السنة (2/ 332).

 

[9] المرجع نفسه (4/ 452).

 

[10] تأويلات أهل السنة، (3/ 551).

 

[11] المرجع نفسه، (8/ 646).

 

[12] المرجع نفسه، (8/ 646).

 

[13] المرجع نفسه، (8/ 636).

 

[14] تأويلات أهل السنة (9/ 447).

 

[15] المرجع نفسه، (8/ 206).

 

معلومات إضافية

المنهج الماتريدي وتحصين الشّباب من التغرُّب
د. محمد جنيد بن محمد نوري الديرشويأستاذ مشارك في تخصّص الفقه الإسلامي وأصولهأكاديمية بلغار الإسلامية، تتارستان- روسيا الاتحادية بسم الله...
أثر العولمة على القيم والأخلاق
د. محمد أمين على محمد عيسىمدرس العقيدة والفلسفةجامعة نور مبارك كازاخستان- سابقاًالقاهرة الحمد لله رب العالمين حمدا لا يبلغ العدّ...
إسهامات الماتريدية في الفقه من خلال دراسة المنهج الفقهي للإمام أبي منصور الماتريدي في تفسيره “تأويلات أهل السنة”
مصطفى محمود كلية دار العلوم بجامعة المنيا بجمهورية مصر العربيةإسهامات الماتريدية في الفقه من خلال دراسة المنهج الفقهي للإمام أبي...

ترك التعليق

ملاحظات

التواصل الاجتماعي

اتصال

هاتف:
بريد إلكتروني:
العنوان:
©2024 All Rights Reserved. This template is made with by Cherry