19.01.2023
247

إسهامات الماتريدية في الفقه من خلال دراسة المنهج الفقهي للإمام أبي منصور الماتريدي في تفسيره “تأويلات أهل السنة”

مصطفى محمود 

كلية دار العلوم بجامعة المنيا بجمهورية مصر العربية

إسهامات الماتريدية في الفقه
 من خلال دراسة المنهج الفقهي للإمام أبي منصور الماتريدي في تفسيره “تأويلات أهل السنة”

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعلى صحبه ومن والاه وبعد؛ فإن المتصفح لكتب التفسير يجدها زاخرة بكثير من الأحكام الفقهية والتعليلات والحكم والتوجيهات والترجيحات ما لا يجده في كتب الفقه، ومن هذه التفاسير تفسير الإمام الماتريدي (رحمه الله) فعند القراءة في تفسير الماتريدي يبدو لنا جليا عنايته بذكر المسائل الفقهية لا سيما عندما يتعرض لتفسير آيات الأحكام، فيبين ما في الآية من مسائل وأحكام مصحوبة بعللها وبمنهجية منضبطة ومحكمة؛ حيث كان صاحب اجتهاد ورؤية ثاقبة، ويكثر من ذكر الإمام أبي حنيفة لكونه حنفيًا، ويورد أقوال الفقهاء من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ثم يرجح القول الذي يذهب إليه مع المناقشة ودليل ترجيحه، ولكنه لا ينسب الأقوال إلى أصحابها في جميع المواضيع، ويعد مؤسسة كلامية وفقهية مستقلة. ومن أهم الملامح التي تميز بها فقه الإمام من خلال النظر إلى كتابه في التفسير؛ نستطيع أن نستظهر اهتمام الإمام في تفسيره بالاستدلال لصحة مذهبه الحنفي، كما كان يعرض أقوال خصوم المذهب، وأحيانا يعرض أدلتهم ويتولى الرد عليها، بما يعكس مِكنَته الفقهية وملكته الأصولية، وقد كان الإمام الماتريدي فقيهًا حنفيًا، دلت مؤلفاته على امتلاكه لملكة فقهية وحسن تأصيل وتفريع على أصول مذهب الإمام الأعظم. لقد سار الماتريدي في تفسير آيات الأحكام انطلاقا من مذهبه الحنفي، فهو يقرر مذهب الحنفية ويوجه الآيات غالبا لأقوال الحنفية؛ ورغم ذلك أكثر من ذكر أقوال المخالفين له ولمذهبه، وقد أطال في مسائل الفقه إلى حد طغى على كثير من المباحث، وكان قلمه سيالا في مسائل الفقه، وهذا سيتضح من خلال البحث بإذن في الفصول القادمة. وأما المنهج المتبع في البحث؛ فقد اتبعت المنهج الوصفي التحليلي، ولقد جاء البحث في مقدمة وثلاثة مباحث على النحو التالي: المبحث الأول: طريقة عرضه للقضايا الفقهية، وطريقه الاستشهاد والاستدلال.

المبحث الثاني: موقفه من مذهبه ( مذهب الحنفية) وتأثيره فيمن جاء بعده من فقهاء المذهب الحنفي.

المبحث الثالث: موقفه من المذاهب الأخرى.

المبحث الأول طريقة عرضه للقضايا الفقهية، وطريقه الاستشهاد والاستدلال. الاهتمام بالآيات الفقهية

حظيت آيات الأحكام بقسط كبير من تفسير الماتريدي؛ حيث إنه اهتم بعرض المسائل الفقهية من خلال الآيات، وهو يقرر مذهب الحنفية، ويفسر الآية عليها أو يبني الأحكام عليها ثم يقوم بإيراد أقوال العلماء فيها بأدلتها مع مناقشتها، واستخلاص ما فيها من أحكام شرعية. ومما يجدر الإشارة إليه أنه في الغالب لا ينسب الأقوال إلى قائليها، وأنه يبين انتسابه للمذهب الحنفي؛ حيث إنه ينص على آراء الحنفية وينصرها بالاستدلال لها، وترجيح جانبها في الأعم الأغلب.وهو كثير الاستشهاد بالحديث النبوي وأقوال الصحابة الكرام وبالجملة فقد اعتنى الماتريدي – رحمه الله – بآيات الأحكام في تفسيره، ولعل مرجع ذلك لأنه رجل فقه بالدرجة الأولى وهذا واضح في تفسيره. فيجعل الآية منطلقا له في بحوثه الفقهية ومن ثم يعرج على التفريعات الفقهية. ففي مقدمة كلامه على تفسير سورة الفاتحة. قال: ثم هي ليست بفريضة في حق القراءة في الصلاة لوجوه:

أحدها: أن فرضية القراءة عرفنا بقوله: “فاقرأوا ما تيسر من القرآن” وفيها الدلالة من وجهين:

أحدهما: أنه قد يكون غيرها أيسر.

والثاني: أن فرضية القراءة في هذه الآية من حيث الامتنان بالتخفيف علينا والتيسير، ولو لم يكن فريضة لم يكن علينا في التخفيف منَّة إذا بالترك..... إلخ. إن الإمام الماتريدي حنفي المذهب ويعد من مجددي مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان، ويتضح ذلك جليًا في تأويلاته لآيات الأحكام في القرآن الكريم على الفقه الحنفي في استنباطه للأحكام الفقهية من آيات التشريعات، فيورد أقوال الفقهاء ثم يعمل الملكة الفقهية لديه في الاستنباط. مثال ذلك: عند قول الله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم قال الإمام الماتريدي: يشبه أن تكون الآية في بيان موضع الصدقة؛ على ما تقدم من الذكر بقوله: ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا الآية، ما ذكر أن المنافقين كانوا يأتون رسول الله، يسألونه من الصدقات، فإن أعطاهم رضوا عنه، وإن لم يعطهم طعنوا فيه، وعابوا عليه، فبين أن الصدقات ليست لهؤلاء، ولكن للفقراء من المسلمين، والمساكين من المسلمين، وكذلك ما ذكر من الأصناف: المكاتبين والغارمين. . . أنها لهؤلاء من المسلمين، لا لهم.

المبحث الثاني: موقفه من مذهبه ( مذهب  الحنفية) وتأثيره فيمن جاء بعده من فقهاء المذهب الحنفي.

سعى الماتريدي – رحمه الله - إلى توجيه الكثير من الآيات نصرة لمذهب الحنفية، وهذا أمر ظاهر في تفسيره يتضح من خلال ذكر بعض الأمثلة:

فعند تفسير قوله تعالى: “يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا([1])، ثم قوله: (مصدقا لما معكم) أي: موافقا لما معكم، وإنما كان موافقا لما معهم بالمعاني المدرجة فيه والأحكام، لا بالنظم واللسان؛ لأنه معلوم أن ما معهم من الكتاب مخالف للقرآن نظما ولسانا، وكذلك سائر كتب الله - تعالى - موافق بعضها بعضا معاني وأحكاما، وإن كانت مختلفة في النظم واللسان؛ دل أنها من عند الله - تعالى - نزلت؛ إذ لو كانت من عند غير الله كانت مختلفة؛ ألا ترى أنه قال: ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا، ففيه دليل لقول أبي حنيفة - رضي الله عنه - حيث أجاز الصلاة بالقراءة الفارسية؛ لأن تغير النظم واختلاف اللسان لم يوجب تغير المعاني واختلاف الأحكام، حيث أخبر - عز وجل - أنه موافق لما معهم، وهو في اللسان والنظم مختلف، والمعنى موافق[2]

تأثير الماتريدي الفقهي فيمن جاء بعده:

لقد أثر الماتريدي فيمن جاء بعده من المفسرين والفقهاء من أمثلة ذلك ما ورد في تفسير النسفي عند قوله تعالى “وإنه لفي زبر الأولين” قال: فيكون دليلا على جواز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة، تأثرًا بقول الماتريدي، ويعد النسفي أكثر المفسرين الذين أفادوا ونقلوا عن الماتريدي.

المبحث الثالث: موقفه من المذاهب الأخرى

لقد تحامل الماتريدي في كثير من الأحيان على مخالفي مذهبه من المذاهب الأخرى، وكان كثيرا ما يلقي بالنقد والتجريح اللاذع لأصحاب المذاهب الأخرى ولا أدل على ذلك من موقفه من الإمام الشافعي فمرة يعيب على الشافعي ومرة يقسو عليه ويعد كلامه لعبا وعبثا من ذلك قوله في التفسير ” ثم من قول الشافعي - رحمه الله -: إن على الكافر الحج والصلاة والصيام في حال كفره، فإذا أسلم سقط ذلك عنه؛ فذلك عندنا لعب وعبث في دين الله - تعالى - غير جائز أن يلزمه فرض في حال لا يجوز له فعله، فإذا جاء سبب الجواز يسقط عنه ذلك”[3].

ومع ذلك فقد ترحم على الشافعي في مواضع أخرى.

الخاتمة.

وفي نهاية هذا البحث أستطيع أن أصل إلى النتائج التالية:

أن الماتريدي كثيرًا ما يذكر المسائل مقرونة بأدلتها وعللها.

أن عامة المسائل التي ذكرها في كتابه وافق فيها مذهب الحنفية إلا القليل منها.

المراجع

الجواهر المضيَّة في طبقات الحنفية، تحقيق: عبد الفتاح محمد الحلو، هجر للطباعة والنشر، ط2 ،1413هـ/1993م

 تاج التراجم لقطلوبغا، تحقيق: محمد خير رمضان يوسف، دار القلم، بيروت، لبنان،  1992م

 مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم لطاش كبرى زاده، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1985م

 طبقات الحنفية 

 الأثمار الجنية في أسماء الحنفية 

الفوائد البهية في تراجم الحنفية

الأنساب لعبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي، أبو سعد (المتوفى: 562هـ) المحقق: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني وغيره، مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الطبعة: الأولى، 1382ه/1962م.

تفسير الماتريدي (تأويلات أهل السنة) تحقيق: د. مجدي باسلوم، دار الكتب العلمية – بيروت - لبنان، 2005م.

 سنن ابن ماجة، تعليق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر – بيروت،

صحيح البخاري، دار طوق النجاة، بيروت، لبنان، 1422هـ.

صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي – بيروت، لبنان، تعليق: محمد فؤاد عبد الباقي.

المصنف لابن أبي شيبة، تحقيق: أبي محمد أسامة بن إبراهيم، دار الفاروق الحديثة للطباعة والنشر، القاهرة ، 2007م

المفسرون في النصف الأول من القرن الرابع الهجري ( جمع ودراسة استقرائية وصفية)، إعداد: محمد سيت بن محمد علي، دار الكتب العلمية ، بيروت، لبنان.

 

 


 

[1] سورة النساء الآية: 47

 

[2] التأويلات للماتريدي 3/200

 

[3] التأويلات للماتريدي، 2/436

 

معلومات إضافية

المنهج الماتريدي وتحصين الشّباب من التغرُّب
د. محمد جنيد بن محمد نوري الديرشويأستاذ مشارك في تخصّص الفقه الإسلامي وأصولهأكاديمية بلغار الإسلامية، تتارستان- روسيا الاتحادية بسم الله...
أثر العولمة على القيم والأخلاق
د. محمد أمين على محمد عيسىمدرس العقيدة والفلسفةجامعة نور مبارك كازاخستان- سابقاًالقاهرة الحمد لله رب العالمين حمدا لا يبلغ العدّ...
منهج الإمام الماتريدي في آيات الصفات من خلال تفسيره
الدكتور سيف بن علي العصريأستاذ علم الكلام والفقه والقضايا المعاصرة في أكاديمية بلغار الإسلامية الحمد لله المنفرد بالكمالات، المتصف بجميل...

ترك التعليق

ملاحظات

التواصل الاجتماعي

اتصال

هاتف:
بريد إلكتروني:
العنوان:
©2024 All Rights Reserved. This template is made with by Cherry