20.09.2022
266

الحوار المجتمعي والسِلم الأهلي في اوزبكستان

ارتبط تاريخ البشرية ارتباطًا وثيقًا بالديانات ، التي تعد أحد العناصر الرئيسة في تشكيل وصياغة الأوضاع   الاجتماعية ، والسياسية ، والثقافية لمختلف الحضارات على مدى آلاف السنين. لقد تكونت هذه الحضارات كمعطيات تاريخية نتيجة للهجرات ، والحروب ، والتجارة . ومع هذا التفاعل الحضاري بين هذه المكونات الثلاث حدث تبادل للثقافات ، وانتشار للأديان المختلفة من منطقة إلى أخرى من العالم. 

 إن عملية التفاعل الحضاري – التي تمت على مدى عقود في الماضي - تتم في عالمنا المعاصر بوتيرة  متسارعة أضعاف مما كان في الماضي مئات ، إن لم يكن آلاف المرات ، مستفيدة في ذلك من وفرة المعلومات وكثافتها وتنوعها ، وكذلك ووسائل الاتصال السريعة التي جعلت العالم أكثر قربًا وتشابكًا ، وهذه الحقيقة تكشف لنا ، وتؤكد أنه من الصعوبة بمكان أن تبقى في عالمنا المعاصر دول أو شعوب منغلقة على ذاتها. 

إن تداخل الثقافات والأديان والتفاعل فيما بينها يمثل ثراءًا هائلًا لحياتنا . وفي الوقت نفسه يمكن أن تؤدي هذه التفاعلات إلى بعض الجوانب السلبية : في ظل ظروف معينة قد تنشأ حالات من الصراع بين ممثلي الأديان والشعوب ، خاصة إذا كانت هذه التناقضات مصطنعة ومُهَدَّفة لأغراض سياسية .

يمكن لجمهورية أوزبكستان أن تكون مثالًا على التنفيذ الناجح لسياسة تحقيق السلام والوئام بين الأديان. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن سياسة أوزبكستان في مجال الدين تركز على الحوار بين الأديان الذي يتميز بالتسامح والاحترام المتبادل ، والسلام بين المواطنين ذوي عقائد دينية مختلفة. فأوزبكستان تقدم  نموذجًا جديدًا لبناء العلاقات بين ممثلي الديانات المختلفة يقوم على نهج متوازن ومساواة بين جميع المؤمنين أمام القانون والدولة. 

 إن أحد أهم أنشطة الدولة والمجتمع لضمان الحرية الدينية في أوزبكستان ، هو تعزيز وتوسيع الحوار بين الأديان ، والذي يعد أهم عامل في تحقيق الانسجام والتوافق الوطني العام . هذه العملية لها جذور تاريخية عميقة في أوزبكستان حيث شهدت منذ العصور القديمة على طريق الحرير في مدنها المختلفة  التعايش بين ديانات مختلفة مثل الأسلام والمسيحية واليهودية والبوذية . بالإضافة إلى ذلك ، فإن التنوع الحضاري والثقافي الذي صاحب حركة التجارة على طريق الحرير خلق مجالًا واسعًا وخصبًا للحوار ، وقبول الآخر والإمتزاج بين الأفكار والرؤى المتقاربة ، ومن هنا ولد التسامح على أرض أوزبكستان منذ قديم الزمن ، وأصبح أحد أعمدة هويتها و أيديولوجيتنا الوطنية الحديثة، ولهذا لم يكن غريبًا  أن يكون التسامح هو الأساس الذي أرسته الدولة منذ أيام الاستقلال الأولى في عام 1991.

والأمر كذلك ، فإن التسامح الديني لم ينشأ على أرض أوزبكستان هكذا بين عَشِيةٍ وضحاها ، وكما أشرنا أعلاه ، فإن هذا المبدأ هو عنوان كبير لتجربة تاريخية من التعايش السلمي بين الأديان والشعوب المختلفة  وفي التاريخ الحديث يشهد واقع أوزبكستان على تجربة جديدة حدثت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عندما جاءت الأرثوذكسية إلى المنطقة بعد غزو روسيا القيصرية لآسيا الوسطى. 

في أعقاب مجيء الكنيسة الأرثوذكسية الروسية توالت موجات إعادة التوطين في آسيا الوسطى ، وشملت ضمن من شملت إعادة توطين المنيونايت الألمان ،  والمتدينون القدامى من القوزاق ، والجماعات الدينية الأخرى ، وأيضًا المتدينون القدامى من البروتستانت والكاثوليك .

لقد أدت الاضطرابات السياسية  في النصف الأول من القرن العشرين متمثلة في  الثورة " البلشفية " والحربان العالميتان  إلى موجات جديدة من إعادة التوطين ، مما أدى إلى إحدث تغيير كبير في التركيبة الديموغرافية ، وبالتالي التكوين الديني لسكان أوزبكستان.

من الأمثلة الواضحة على السلام والوئام بين الأديان العلاقة بين المسلمين الذين يشكلون الأغلبية في أوزبكستان وممثلي الأرثوذكسية ، وهم ثاني أكبر مجموعة دينية في البلاد.

في عام 1871 بقرار من سينودس الكنيسة الأرثوذكسية ، تم إنشاء أبرشية طشقند وتركستان ، كما تأسس معبد في منطقة المستشفى بطشقند. اليوم تحول هذا المعبد  إلى " كاتدرائية العذراء المقدسة " واصبحت المعبد الرئيس لأبرشية طشقند. في نوفمبر 2021 تم الاحتفال على نطاق واسع بالذكرى السنوية  المائة والخمسين للكنيسة الأرثوذكسية الروسية في آسيا الوسطى . وفي هذه المناسبة تحدث رئيس منطقة العاصمة في آسيا الوسطى متروبوليت طشقند واوزبكستان القس فيكنتي قائلًا :  " مع هذه الذكرى السنوية نلاحظ أنه طوال تاريخ وجود الكنيسة الأورثوذكسية الروسية في أراضي آسيا الوسطى لم يتم تسجيل أي صراعات في حياة المجتمع. بل ساد القبول والانسجام في المجتمع. وأضاف القس : 

" خلال كل هذه السنوات لم تكن هناك صراعات على أسس دينية أو عرقية . نأمل أن تستمر أنشطة ابرشيتنا في إحلال السلام والوئام والمحبة والاحترام بين الناس الذين يعيشون على أرضنا لسنوات عديدة وقرون " .

 الجدير بالذكر أن رؤساء الطوائف الدينية الأخرى في أوزبكستان قد شاركت في هذا الأحتفال بهذه الذكرى ، ومشاركة الطوائف الدينية بعضها لبعض في مناسباتهم الدينية المختلفة ، هو أمر مألوف ومعتاد في بلادنا ويتجلى ذلك عن طريق الحوار بينهم بالشكل العلني المفتوح ، وهذا يعكس وحدتهم الوطنية ، كما يعكس  - وهو الأهم – روح التسامح الديني بينهم. ومن مظاهر هذا التسامح أيضًا المشاركة في الاحتفالات الشعبية والرسمية بأعياد النوروز " أعياد الربيع " وكذلك في الأعياد الرسمية الوطنية المختلفة ، والمشاركة معًا في أنشطة وبرامج تنمية المجتمع. 

على مدى التاريخ المنظور – وعلى الرغم من كل الصعوبات والتحديات – عاش الشعب الأوزبكي بكل طوائفه ككتلة تاريخية موحدة في سلام وأمان ، ولعل الميزة الكبرى التي صنعت هذه الوحدة الوطنية هي عناصر التسامح ، والعقلانية ، وقبول الآخر ، والثقافة الوطنية العميقة التي يتحلى بها الشعب الأوزبكي ، وهي نفسها العناصر التي وحدت رؤية الأمة الأوزبكية في فهم قضايا الإقليم والعالم . إن كل هذه المبادئ السابقة  هي التي تحقق الاحترام والتسامح ، وتصنع قواعد الحوار المتبادل ، والتعاون المشترك لمواجهة التحديات. لقد جسدت كل هذه المفاهيم التجربة الفريدة من نوعها في أوزبكستان وهو تحقيق نموذجها الخاص في التعايش السلمي بين كل طوائفه وأديانه. 

لقد لعب المفكرون الحداثيون أصحاب الفكر التجديدي دورًا كبيرًا في تكريس تلك المفاهيم والمبادئ ، ونذكر منهم : أحمد دونيش ، وفورقات ، وحمزة ، و عيني ، وبهبودي ، وفوترات ، وغيرهم. فقد دعا فورقات إلى دراسة العلوم والتكنولوجيا الأوروبية ، والتعاون مع الشعوب الأخرى ودراسة ثقافاتهم وتقاليدهم الروحية . وعلى نفس المنهاج كتب فوترات:  " ليس هناك شك في أنه على الرغم من اعتناق الناس ديانات مختلفة ، ويعيشون في بلدان مختلفة ، وينتمون إلى قبائل ومجموعات عرقية مختلفة ،  إلّا أنهم جميعًا أطفال من نفس الجنس البشري.

يوجد اليوم في أوزبكستان أكثر من مائة وثلاثين جماعة عرقية ينتمون إلى ديانات مختلفة يعيشون جميعًا في  سلام وتسامح ، وفي الوقت الحالي تعمل في اوزبكستان ألفي منظمة دينية تمثل ستة عشر طائفة دينية من  بين هذه المنظمات مائة وثلاث وثمانون منظمة مسيحية ، وثمان منظمات يهودية ، وست منظمات بهائية ، ومنظمة شهود يهوه ، وجمعية هاري كريشنا ، ومعبد بوذي ، بالإضافة إلى جمعية الكتاب المقدس. 

على مستوى الدولة في أوزبكستان ، تحظى قضايا التسامح الديني بأهمية كبيرة ، ويمكن قراءة هذا في المؤشرات التالية:

أولًا: في الترسيخ الدستوري لحقوق الانسان الأساسية في حرية الوجدان والدين .

ثانيًا: في نص الدستور على مبدأ المساواة بين المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم الدينية.

ثالثًا: في المساواة بين المنظمات الدينية أمام القانون. 

تولي حكومة البلاد اهتمامًا كبيرًا لقضايا التسامح الديني والسلم الاجتماعي . وفي هذا الاطار اقترح الرئيس شوكت ميرضيائييف رئيس الجمهورية في خطابه أمام الدورة الثانية والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2017 مبادرة " التنوير والتسامح الديني " التي تهدف إلى المساعدة في تأمين حق التعليم للجميع والقضاء على الأمية والجهل ، كما تهدف إلى تحقيق التسامح والاحترام المتبادل ، وضمان الحرية الدينية،  والمساعدة في حماية حقوق المؤمنين ورعايتهم. وقد تم اعتماد المبادرة وصدور قرار بالموافقة بالاجماع عليها في الدورة الثالثة والسبعين في شهر ديسمبر 2018. 

 يقوم مجلس الشئوون الدينية  - الذي يضم رؤساء المجلس الإسلامي في أوزبكستان ،وأبرشية الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في طشقند وعموم أوزبكستان ، الكنيسة الرومانية الكاثوليكية ، واتحاد المعمدانيين المسيحيين الإنجيليين ، ومركز الكنيسة الإنجيلية الكاملة ، والكنيسة الإنجيلية ، والكنيسة اللوثرية ، والجالية اليهودية في طشقند - بمهام تنظيم الحوار بين الأديان ، ووضع التدابير الهادفة إلى تعزيز مبادئ التسامح والوئام وضمان السلام بين الأديان

إن أهم مؤشر على نجاح سياسة أوزبكستان في مجال الحوار بين الأديان هو السلام القوي والانسجام المتبادل بين الطوائف الدينية والأعراق المختلفة في اوزبكستان. وسوف تستمر الأمة الأوزبكية في الحفاظ على هذه الوحدة الوطنية وحمايتها دائمًا. 

 

الباحث/ أندريه دوناييف

زميل باحث أول بمركز الإمام الماتريدي الدولي للأبحاث 

جمهورية أوزبكستان.  

 

 

 

 

 

معلومات إضافية

أستاذ مشارك في أكاديمية أوزبكستان الإسلامية الدولية، العالم الإسلامي الشهير، سعيد مختار عقيلوف توفي بسبب مرض خطير
أظهر سعيد مختار عقيلوف إمكاناته العلمية العالية ومهاراته المهنية خلال مسيرته الفعالة في أكاديمية أوزبكستان الإسلامية الدولية، ونال ح الجميع...
نشرت جريدة "الأخبار اليوم" المصرية مقالة حول التعليم في أوزبكستان الجديدة وحماية الصحة والبعد الاجتماعي التي تعتني بها الحكومة تجاه مواطينها
نشرت جريدة "الأخبار اليوم" المصرية مقالة حول الاصلاحات الجارية في جمهورية أوزبكستان المتجددة التي تشمل مجال التعليم وقطاع الصحة والبعد...
2022أكدت الوكالة للمملكة البريطانية "ذي إندبندينت" أن أوزبكستان من أحسن الدول للقيام بالسياحة خلال سنة
نشرة الوكالة البريطانية "ذي إندبندينت" مقالة حول أحسن الأماكن السياحية العالمية خلال سنة 2022 وأشارت أن أوزبكستان أصبحت من هذه...

ترك التعليق

ملاحظات

التواصل الاجتماعي

اتصال

هاتف:
بريد إلكتروني:
العنوان:
©2024 All Rights Reserved. This template is made with by Cherry